لقد آلمني ألماً شديداً موقف من المواقف الحزينة التي يمر بها العاملون في المستشفيات، موقف لا يمكن أن يتخيله أحد منا، موقف جعلني أشعر بالمرارة والأسى لعدة أيام، ونغص علي معيشتي.
في أحد أيام الشتاء الرائعة وفي الصباح الباكر إتجهت إلى عملي وأنا أستمتع بذلك الجو الصباحي الممتع، وعبرت داخل المستشفى عبر ذلك الممر التي يصطف على جانبيه الموت والحياة.. المرض والصحة.. هنا غرف المرضى وغرف النقاهة وعلى اليسار ثلاجة الموتى، وبجوارها غرفة العناية المركزة، وعلى يمينها غرفة العمليات... وكنت أتأمل حياة الإنسان منذ ولادته إلى مماته... غرفة الولادة ليست بعيدة من هنا!! الثلاجة قريبة جداً من هذا الممر!! ولادة ومعاناة ومرض وصحة... عمليات جراحية... فترة نقاهة بعد العملية.. العناية المركزة.. الموت... الثلاجة... وما تحويه من جثث تنتظر التصريح بالدفن.. يا الله...؟؟ كيف يغفل الإنسان عن هذه الحقائق؟ كيف يجهل الإنسان حقيقته وضعفه ثم يطغى ويتجبر ويعصي ربه؟ كم هم الذين يعانون من الأمراض في هذا المستشفى؟ آلاف المرضى يدخلون ويخرجون ويعانون... وكم هم الغافلون خارج هذا المستشفى الذين ألبسهم الله لباس الصحة فغفلوا عن شكر هذه النعمة، وتناسوا فضل الله عليهم؟.. وبينما أنا سارح بهذه الأفكار التي أقطع بها هذا الممر الطويل... فوجئت بصوت يقطع عليّ حبل أفكاري... يا دكتور... يا دكتور؟؟ أرجوك.. أرجوك؟؟ التفت على يميني فإذا بها امرأة شابة محتشمة وحولها طفلان أحدهما في الخامسة من عمره والآخر ثلاث سنوات تقريباً.. وتناديني بصوت هادئ محتشم.. أرجوك.. أرجوك.. إفزع لي وإسمح لي وأولادي بأن ندخل لنرى زوجي في هذه الغرفة.. فالتفت يساري فإذا باب غرفة العناية المركزة... فقلت لها: الزيارة مفتوحة؟ لماذا لم تدخلي؟ قالت: لقد أخرجني زميلك قبل قليل!! قلت لها: إنتظري، فدخلت وسألت زميلي أخصائي العناية المركزة: ما الأمر؟ وما هي قصة هذه المرأة الشابة التي بالباب هي وأطفالها؟ لماذا؟ فقاطعني وقال لي: يا أخي هذه المرأة المسكينة زوجة ذلك الشاب الذي يرقد على سرير رقم 7 وهو مصاب بسرطان الرئة، مدخن منذ إحدى عشرة سنة ولديه سرطان رئة منتشر وهو كما ترى على الأجهزة وينتظر قضاء الله وقدره.. وقد كانت زوجته وأولاده هنا قبل دقائق، ولكنهم حينما يدخلون تنفجر الزوجة المكلومة بالبكاء، ويصيح الأطفال ويجري موقف مأسوي لا يمكن تحمله، فيتأثر هذا الشاب وتتغير ملامحه، وتبدأ الأجهزة بالصفير والتغيرات، فيرتفع ضغط الدم، وتتسارع دقات قلبه، ويحمر وجهه، وأخشى أن يموت بسبب هذه التغيرات.. فذهبت إلى الشاب وتأملته فإذا هو بين الحياة والموت.. والأجهزة تحيط بجسمه من كل جانب!! فتأملت حاله.. وتذكرت حال الكثيرين من المدخنين الذين يكادون يصلون إلى هذه المرحلة الحرجة من آثار التدخين.. قررت أن أساعد زوجته وأطفاله للدخول، لأنه في أواخر أيامه، فلا ضير أن أتركهم يرونه ويملأون أعينهم منه.. فقال لي زميلي: بشرط...!! قلت: ما هو؟؟ قال: أن تقف معهم وتخرجهم إذا رأينا ذلك في مصلحة المريض...!! فوافقت.. ناديت الزوجة المسكينة وطفليها.. ورافقتهم... وهالني منظر الزوجة وهي تغالب أنفاسها ونشيجها وبكاءها... ثم منظر الأطفال وهم يبكون على أبيهم، ويقبلونه، ويمسك أحدهم ببراءة الأطفال بيد أبيه، ويحاول سحبه وهو يقول: هيا يا أبي لنذهب في سيارتنا!! هيا نذهب للمطعم الفلاني.. للبقالة... هيا نذهب لأمي نورة!! لنذهب إلى عمتي فلانة.. وهو يبكي ويحاول جاهداً سحب يد أبيه، ثم الطفل الأكبر وهو يستجدي أباه أن يرد عليه ويجيبه!! أبي؟؟ أبي؟؟ رد عليّ؟؟ ماذا بك؟؟ لماذا أنت هنا؟؟ لماذا لا تذهب معنا للبيت؟ نريد أن نركب سيارتك ونتمشى؟ لماذا لا تخرج معنا..؟؟ هيا إلى بيتنا!! تداخلت العبارات والعبرات في سمعي وبصري.. إقشعر بدني..!! لم أعد أسمع جيداً سرت قشعريرة شديدة في جسدي!! إلتفت إلى الأم فإذا هي مغرورقة في دموعها وسألتنا وهي تغالب عبراتها ونشيجها: متى سيخرج يا دكتور؟؟ متى؟؟ نريده نوراً لحياتنا!! البيت مظلم بدونه!! لا طعم للحياة بدونه!! أبناؤنا كأنهم أيتام!! ثم إنفجرت الزوجة باكية!! وإنفجرت أنا بدوري.. تحاملت على نفسي وإبتعدت قليلاً، لكي أخفي دموعي وعبراتي.. شاركتهم بالأسى وكأني أحدهم..!! رأيت أن الأب المسكين يصارع شيئاً ما، ويحمر وجهه وهو يحاول الرد عليهم!! تتحرك يداه ببطء، ويغالب نفسه فبدأت الأجهزة الطبية تتسارع والخطوط الرقمية تتمايل.. فهذا جهاز الضغط يزداد حدة.. وجهاز النبض يتسارع.. أدركت أنه سيحدث له شيء ما.. طلبت من تلك الزوجة المسكينة الخروج فلم تسمعني.. أو أنها أرادت أن لا تسمع!! حاولت تهدئة الأبناء والتربيت على رؤوسهم ولكنني لم أتحسس موقع يدي.. كدت أن أفقد تماسكي!! فلقد خيل لي أنني مكان الأب.. وهو يغادر هذه الدنيا وأولاده وزوجته، كيف هي حسرته!! وشعوره!! ليتخيل كل مدخن أنه مكانه!! ثم تخيلت نفسي مكان الزوجة التي ستفقد زوجها وتترمل وتفقد بريق الحياة..!! ثم الأطفال والذين سيدخلون عالم الأيتام....!! ياله من موقف لا ينسى!! تمالكت نفسي وقلت لهم: لنخرج الآن لأن الطبيب يريد تقديم بعض العلاج له!! لنخرج ثم تعودون مرة أخرى لاحقاً.. كافحت من أجل إخراجهم وأنا أقول بنفسي.. من يلومهم؟ خرجت معهم وغادرت ذلك الممر.. وعاش هذا المنظر في مخيلتي أياماً عديدة.. ذقت فيها طعم المرض وطعم الفراق وطعم المأساة.. لم يغادرني خيال الأطفال وهم يسحبون يد أبيهم لإخراجه معهم! والمرأة وهي تنتحب وتبكي! والأب وهو يغالب مرضه وتغرورق عيونه بالدمع!! لن يرسم ذلك رسام ولن يكتب هذه اللحظات أديب.. لأنها ليست بالسهولة التي أرويها لكم... ولكنها الحقيقة والمعايشة لآثار هذه السيجارة اللعينة.. قفوا وإعتبروا قبل أن تصيروا مكان هذا الرجل وقبل أن يصير أطفالكم مكان هؤلاء الأطفال الأبرياء!! وقبل أن تصير زوجتك مكان هذه الزوجة المسكينة!! هل تريد هذا لنفسك؟؟ هل تريد تكرار هذا المنظر؟
الكاتب: فهد بن محمد الخضيري.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.